بين سبيستون، ديزني، وستديو جيبلي: عن الشر، الكراهية، و"الناكرات" داخل مجتمع الميم
كتابة: نونو
في طفولتي، كنتُ أبحث عن نفسي بين طيات القصص، لم أكن أعرف ما الذي أبحث عنه تحديداً، لكنني كنت أعلم أن هناك شيئاً مختلفاً في داخلي، شيئاً لم يُسمح له أن يُقال بصوتٍ عالٍ. كنت أجلس أمام شاشة التلفاز، طفلة هادئة تحتمي بعوالم لا تنتمي للواقع، وفي آنٍ واحد، كان عالمي منقسم بين ديزني، وسبيستون، حيث شاهدت لأول مرة شخصية ستبقى عالقة في ذهني طيلة حياتي: "ميرويم"
في أنمي Hunter x Hunter، أو "القناص" كما أُطلق عليه في سبيستون، وُلِد ميرويم كوحش كامل: قويّ، متغطرس، لا يرى البشر سوى "ماشية". كان كل شيء فيه يُجسد صورة الشر الخالص. وحتى أنا، الطفلة المشاهدة، لم أشك في ذلك بدايةً. لكنه لم يبقَ كذلك.
في أربعين يوماً فقط، تحوّل ميرويم. بدأ يتعلّم، يقرأ، يلعب، ويُهزم. كانت كوموجي، فتاة عمياء، أوّل من انتصر عليه — ليس بالقوة، بل بالذكاء، وبالهدوء. رأى فيها شيئاً لا يستطيع السيطرة عليه، "كائناً لا يخافه". شيئاً فشيئاً، بدأ ميرويم يتغيّر. أصبح يحترمها، ثم يحبها، ثم يدرك أنه لا يريد حكم البشر، بل فقط أن يكون مفهوماً. وأن يُحَب.
في لحظاته الأخيرة، لم يطلب ميريوم عرشاً، ولا انتقاماً، بل فقط يدها. ومات وهو يُمسك بها. لأول مرة، عرفتُ أن الشر ليس حتمياً، وأن الوحش قد يُحب، وقد يتطهر، لا بالعقاب، بل الشعور الإنساني الحقيقي.
وفي ذات الوقت، كنتُ أيضاً غارقة في قصص ديزني. أحببت الشريرة، دون أن أفهم لماذا. لم أكن أنجذب للأميرة الطيبة، بل لمن تقف في الظل، تضحك بملامح مبالغ فيها، تلبس بأناقة صارخة، وتجرؤ على أن تكون.
كان في "أرسيلا"، وفي شخصية "كرويلا دوفيل"، تلك التي لا تخاف من إظهار جموحها، تسحب نفساً طويلاً من سيجارتها الطويلة، وكأنها تستنشق التحدي وتنفث الإحتقار. كان فيهن شيء يشبهني؛ ليس في أفعالهن، بل في كونهن خارج القصة، مُستبعدات، غريبات، مختلفات. شعرت أنني، مثلهن، خارج النظام، وأن وجودي يجب أن يكون بين الظلال كي لا يُهاجم.
لكن الشخصية التي بقيت تطاردني، هي سكار من The Lion King. كان مختلفاً عن باقي أشرار ديزني. لم يكن يُخيف، بل كان يُثير الشفقة أحياناً. صوته ناعم، كلماته مليئة بالسخرية، حضوره مزيج من الغضب والذكاء المكبوت. أراد شيئاً بسيطاً: أن يُرى، أن يُحسب له حساب، لكنه أُقصي، فخان. أُبعد، فغدر، وسقط، دون أن يمنحه أحد فرصة أن يُفهم. لقد أحببته، ربما لأنني شعرت أنه لم يُولد شريراً، بل كائن دُفع إلى الهامش.
وفي مكان ما، يتقاطع سكار مع ميرويم — كلاهما ذكي، منعزل، يحمل قوة هائلة وصراع داخلي مرير. لكن بينما سمح ميرويم لنفسه بأن يتغير بفعل الحب والضعف الإنساني، وبقي سكار أسير الأنا، عالقاً في جرحه الأول، دون أن يُمنح لحظة شفاء أو حتى اعتراف. الأول اختار أن يحب، والآخر اختار أن ينتقم. أحدهما أُضيءَ داخله، والآخر احترق في عتمته. ربما الفرق الوحيد… أن ميرويم وجد كوموجي، بينما سكار لم يجد أحداً.
كان عالم ديزني واضحاً: هناك "خَيِّر"، وهناك "شرير". وهذا الأخير يجب أن يُهزم، لتستقيم القصة. ومشاعرنا تُبنى حول هذا المنطق: نشعر بالراحة حين يسقط "الشر"، لأن النظام الذي نفترض فيه الخير، قد عاد. منطق بسيط، مريح وربما خطير.
ثم جاء استوديو جيبلي بأعماله. جيبلي كان شيئاً آخر تماماً. لا صراع بين خير مطلق وشر مطلق، بل مساحات رمادية كثيرة بينهما. الشر في عوالم جيبلي لا يصرخ، لا يضحك بضحكة خبيثة شريرة، ولا يلبس السواد كما الحال مع أشرار ديزني. الشر هنا هادئ وغامض، وأحياناً خافت كظل داخلي لا يُرى دائماً، لكنه يُحَس. قد يكون في الخوف، في سوء الفهم، في الجروح القديمة التي لم تُشفى بعد، في البشر الذين يُدافعون عن أنفسهم بالعنف لأنهم لم يجدوا لغةً غيره.
في هاكو من Spirited Away، كان الشر هو "النسيان". فتًى فقد اسمه، وفقد ذاته، لم يكن يؤذي الآخرين عن قصد، بل لأنه مأمور، مقيّد، محكوم بسحر لا يفهمه. كان مثلنا حين نُؤذي ونحن نحاول فقط النجاة داخل نظام لا يرانا.
وفي الأميرة مونونوكي، لم يكن هناك شرير، بل كان هناك صراع بين قوتين محقّتين. "سان" لا تكره البشر، لكنها لا تعرف كيف تنتمي إليهم. و "ليدي ايبوشي" لا تكره الطبيعة، لكنها لا تملك ترف التأمل في جمالها وسط صراع البقاء. الشر هنا كان في الإنفصال، في غياب الإستماع، لا في النية.
أما في وادي الرياح، كان الشر هو الجهل. الناس خافوا من الغابة، فحاولوا تدميرها. الوحوش بدت مرعبة، لكنها كانت تحمي نظاماً طبيعياً أعمق من الفهم البشري. و"نوسيكا" البطلة، لم تكن محاربة، بل وسيطة سلام، اختارت أن تُصغي بدل أن تُطلق النار.
أما No-Face، فهو التجسيد الأصفى للشر الغامض في جيبلي — فلم يكن كائناً شريراً، بل كائن فارغ، يتشكل حسب ما يُعطى له. حين يُهمل، يصبح مفترساً. وحين يُحَب، يعود لطبيعته المسالمة. الشر عنده لم يكن في ذاته، بل في عزلته. هكذا قدّمت لنا جيبلي رؤية مختلفةج: لا أحد يُفضَح، لا أحد يُهزَم، لا أحد يُرمى من أعلى الجرف، بل الكل في النهاية يُفهم. الكل يخطئ ويتغير. والشر ليس نهاية الشخصية، بل مرحلة مؤقتة في مسيرتها نحو الفهم. وفي هذا، وجدتُ نفسي.
كبرتُ كمثلية في عالم لا يعترف بي إلا إذا كنتُ متخفية، ومع الوقت، سمعت كثيراً في "مجتمع الميم عين" عن فئة يسمونهم/ن بـ"الناكرات"، وهذا المصطلح يتم استخدامه محلياً لوصف كل من لا يعترفون بهويتهم/ن ويدعون خلافها في الأوساط الخاصة والمغلقة داخل مجتمع الميم عين. لكن هذا المصطلح، ورغم تداوله، لا يُشير دائماً إلى ذلك المعنى الحرفي بالضرورة، فبين من يُنكر نفسه، وبين من يُنكرها ويؤذي غيره، فرق شاسع. هناك من ينكر هويته كوسيلة للحماية والأمان في ظل مجتمع يرفض وقانون يجرم وبشكل أو بآخر جميع أفراد المجتمع الكويري السوداني مضطرين لهذا النوع من الإنكار. لكن هناك الناكرون/ات المؤذون، أولئك الذين لم يكتفوا بالإنكار، بل سلّحوه. صاروا يمارسون التنمّر، يهاجمون المتصالحين/ــات مع أنفسهم، يُسقِطون كراهيتهم/ن على غيرهم/ن بلا رحمة، ينسجون حملات تشويه، ويسخرون من كل من تجرأ أن يكون نفسه. هؤلاء لا أبرّر أذيتهم، لكن لابد لنا من تفكيك هذا السلوك لنفهم دوافعه وأسبابه المرتبطة جوهرياً بالواقع الذي يعيش فيه أفراد المجتمع.
وحتى نفهم ما يحدث في دواخلهم بصورة علمية، وجب علينا التأكيد على أن الناس لا يُلدون أشراراً. تشير دراسات علم الأعصاب إلى أن الشعور بالنبذ أو الإهانة أو الظلم يُفعّل مناطق الألم في الدماغ بنفس الفيسيولوجية التي تحدث عندما يتعرض الإنسان لأذًى جسدي. عندما تُنكر هوية الفرد أو يُقلل من قيمته، يُسجَّل ذلك نفسياً كهجوم على الأنا، ويبدأ الدماغ بمحاولة حماية نفسه. وفي لحظة ما، قد يُصبح الإنتقام شكلاً من أشكال الترميم الذاتي. الدوبامين يُفرز حين يتخيل الفرد أنه "ينتصر" أو "يستعيد كرامته"، حتى لو عبر الأذى. لهذا، فالناكرات المؤذيين لا يستطيعون تفريغ هذا الغضب في المجتمع الذي كان سبباً في أذيتهم/ن لذلك فيتم تفريغه في الفئة الأضعف في المجتمع، نحن أفراد مجتمع الميم عين. وجودنا يُذكّرهم بألم لم يُشفى في دواخلهم/ن، فيُصبح الإختلاف تهديداً لسكونهم النفسي، ويُمسي الأذى وسيلة لـ"إعادة التوازن".
تُشير حنا أرندت في تحليلاتها للأنظمة الشمولية في كتاب"On Violence, 1970" أن الأنظمة حين تعجز عن ضبط الجذر الحقيقي للتوتر الداخلي، تعيد توجيه عنفها نحو الفئات الأضعف. وهذا ما يحدث أيضاً على المستوى النفسي الفردي حين يشعر الإنسان بالظلم والرفض، وغالباً ما يكون عاجزاً عن مواجهة الجذر الحقيقي للألم، يفرغ غضبه على من هم أقرب إليه أو أضعف منه. هذا التفريغ هو محاولة يائسة لإعادة التوازن، لكنه يولد دائرة لا تنتهي من الألم والكراهية.
ولكن للعودة لمن من أقصدهم/ن بهذا النص، فهم أولئك الغارقون/ات في الهوموفوبيا الداخلية، الخائفون/ات، الذين يحملون في داخلهم/ن صراعاً مؤلماً بين ما هم/ن عليه، وما قيل لهم/ن أنه خطيئة. أراهم/ن في لحظات التردد، في محاولات التماهي، في الكلمات التي تُقال بنبرة دفاع لا هجوم. هؤلاء لا يؤذون عن عمد، بل يؤذون أنفسهم/ن أولاً لأنهم/ن لم يُشفوا، ولم يجدوا المساحة الآمنة بعد ليشعروا بهوياتهم/ن وكينوناتهم/ن الحقيقية.
وفي الحقيقة أنا أخاف على قلوبهم/ن. أخاف أن يتحول الخوف فيها إلى كراهية، والكراهية إلى فعل. أخاف أن يُصدّقوا أنهم على صواب فقط لأنهم يتبعون ما ورثوه من مجتمعاتهم/ن. وأخاف أن يُصبحوا قاسين/ات، لا لأنهم/ن كذلك، بل لأن الضعف حين يُقمع يتحوّل إلى عنف، فيصبحوا "ناكرات مؤذيين".
سمعت من المتصالحين يقول: "يجب فضحهم، لقد تعبنا من نفاقهم وأذيتهم". وأتفهم هذا الغضب؛ فهو ناتج عن خيبة أمل، لا كراهية حقيقية. لكنني لم أستطع أن أنقاد خلف هذا الغضب، ليس لأنني مثالية، بل لأنني أفرّق. أفرّق بين من اختار الأذى من "الناكرات المؤذيين"، وبين من يحاول أن يتماهى لينجو. ولأجل الثاني، أكتب. أُصغي، لا أُدين. أمهل، لا أفضح. لا أستخدم السلاح الذي بالضرورة صنعته أذرع المجتمعات الكارهة لمجتمعنا.
لقد تعلّمت من ديزني الشجاعة، ومن جيبلي التعاطف، ومن ميرويم التحوّل، ومن سكار ذلك السؤال المؤلم: ماذا لو فُهم قبل أن يُقصى أو يُرمى من أعلى الجرف؟ وأنا أؤمن أننا بحاجة إلى الأربع شخصيات. لأن الشر ليس صفة دائمة، بل لحظة جهل. وربما أقوى انتقام… هو ألا ننتقم. بل أن نحب بعمق، ونفهم بشجاعة، وننتظر حتى يعود من ضلّ الطريق.
وفي ذات الصياغ، يقدم لنا ماركوس أوريليوس (Marcus Aurelius) الفيلسوف الرواقي فلسفية عميقة عن التسامح، فيرى التسامح هو الفعل الذي يحرر الروح من عبء الماضي، وهو القوة التي تسمح للإنسان أن يكون سيد نفسه، لا عبداً لغضبه. من لا يغفر يبقى أسير كراهيته، وهذا هو العبء الحقيقي. ونحن؟ لماذا نسامحهم؟ لأن أرواحنا أيضاً تسعى للتوازن والسكون النفسي.
في الختام، فحسب العديد من الأبحاث، التسامح لا يعني قبول الظلم، بل يعني الإفراج عن إستجابة التهديد التي تستنزف أجسادنا وعقولنا. حين نسامح، لا نُبرّئ الآخر، بل نحرر أنفسنا من الدائرة العصبية التي تُعيد تشغيل الألم. التسامح يُهدّئ الجهاز العصبي، ويُخفّض الكورتيزول، ويُفعّل شبكات الرحمة في الدماغ، مما يُعيد الشعور بالسيطرة الداخلية.
نسامح، لأنهم يتألمون، ولأننا نستحق أن نُشفى .
Comments
Post a Comment