العبور الجنسي، الإرتباك الجندري، وثنائية الجنس في السودان

العبور الجنسي، الإرتباك الجندري، وثنائية الجنس
في السودان

مقدمة

يعيش العابرون/ات في المجتمعات الدينية ذات الطابع الذكوري/الأبوي في أوضاعٍ إنسانيةٍ صعبة، يغلب عليها الظلم والإضطهاد الإجتماعي، والإقتصادي، والصحي. وعليهم/ن - إن أرادوا العبور رسمياً وإعتراف الدولة بهويتهم/ن ومنحهم/ن حق الخضوع للإجراءات الجراحية، أو الدوائية/الهرمونية - عليهم/ن أن يكونوا كذلك عابرين/ات إجتماعياً، وعابرين/ات دينياً، وعابرين/ات سياسياً برفض جميع التابوات المفروضة عليهم/ن بسلطة المجتمع، والدين، والسياسية. في السودان تقِف هذه المفاهيم سداً منيعاً أمام كل من يرغب في العبور ليعيش بهويته كما يحب.

رغم أن قضية العبور الجنسي من القضايا الأساسية المتعلقة بالأقليات الجنسية، والتنوع الجنساني قديمٌ بقِدم الحضارة الإنسانية، لكن لا تزال تشوبها العديد من الأفكار الخاطئة المبنية على التراث الإجتماعي والديني والبعيدة كل البعد عن الحقائق والمفاهيم العلمية والإجتماعية الحديثة. لذا طرح قضية العبور ومناقشتها مهم وضروري حتى في ظل التجريم والتهميش والظلم الإجتماعي الذي يواجه الأقليات الجنسية ومجتمع العابرين/ات.

سنلقي الضوء في هذا المقال على العديد من النقاط الأساسية الهامة التي يجب علينا الوعي بها حول العبور الجنسي. سنحلل المصطلحات الجوهرية والمفاهيم بصورة بسيطة ليسهل فهمها بالتالي فهم فحوى المقال. بعدها سنتطرق لوضع هذه الأقلية تاريخياً بصورة عامة ومن ثم وضعها داخل السودان بصورة خاصة.

مصطلحات أساسية عن العبور الجنسي:

لطالما اكتنف الغموض وسوء الفهم قضية العبور الجنسي، بسبب عدم وجود المساحات المجتمعية والتعليمية الكافية لطرح قضايا الجنس والجنسانية بالأخص قضية العبور الجنسي. وبُنِيَت المسلمات المتعلقة بالعبور الجنسي إستناداً على التراث الديني والإجتماعي كمرجعين لفهمها، وذلك قطعاً غير كافي، وغير علمي، لوجود العديد من المفاهيم الخاطئة داخل التراث. قِلة تلك المساحات في السودان وفي المنطقة العربية/الإفريقية وأحياناً إنعدامها، خلقت مشكلةً أخرى تواجهنا كناطقين باللغة العربية، ألا وهي شُح المصطلحات العربية المحايدة البسيطة، والبعيدة عن الحمولات الإقصائية، المعبرة عن قضايا الجنس والجنسانية. وذلك بالضرورة يؤثر سلباً على الوعي العام حول تلك القضايا، حتى وسط مجتمع الميم.عين، الذي بدوره يؤثر سلباً على الحراك الذي يُراد به تغيير المجتمع والقوانين التي تجرم التنوع الجنساني والجنسي.

لذا من المهم البدء في الموضوع بتعريفاتٍ واضحةٍ لكل مصطلحات العبور الجنسي وما ترمي إليه، في محاولةٍ أشبه بمسح الندى من أسطح الزجاج، للخروج من حالة الضبابية. فإليكم تعريفات للمصطلحات التي سيتم استخدامها في هذا المقال: 

الجنس البيولوجي: هو الخصائص البيولوجية التي يُلد بها الإنسان (بما في ذلك الأعضاء التناسلية، والغدد التناسلية، والأنماط الكروموسومية)، تلك التي تُعرِّف الإنسان كأنثى أو ذكر، أو في بعض الأحيان ثنائيي الجنس.

الجندر (النوع الإجتماعي): هو بنية إجتماعية من الأفكار والمفاهيم التي تُعرِّف الأدوار ونُظُم الإعتقاد والمواقف والصور والقيم والتوقعات التي تصف الرجل والمرأة بناءً على جنسهم/ن البيولوجي، فالأنثى يجب أن تتصف بالدور الإجتماعي المجتمعي لها كإمرأة، كذلك الذكر.

الهوية الجندرية (هوية النوع الإجتماعي): المفهوم الشخصي والإدراك الذاتي الذي يحدده الفرد لنفسه كذكر أو كأنثى (أو لكليهما معاً، أو ليس لأي منهما). يرتبط هذا المفهوم إرتباطاً وثيقاً بمفهوم الدور الإجتماعي، والذي يعرف بأنه مجموعة المظاهر الشخصية الخارجية والسلوكيات الحياتية والتوقعات التي تعكس الهوية الجندرية. 

المنسجمون/ات جنسياً: الأشخاص الذين لديهم/ن تطابق بين هويتهم/ن الجندرية/الجنسية مع الجنس البيولوجي الذي ولدوا به.

العابرون/ات جنسياً:  الأشخاص الذين عُين لهم نوع إجتماعي وهوية جندرية عند الولادة (بناءً على شكل أعضائهم/ن التناسلية، والنمط الجيني) لا يتوافق ولا ينسجم مع هويتهم/ن الإجتماعية التي يشعرون بها. تتضمن مظلة العبور الجنسي العديد من الأطياف منها: 

- المتغيرون/ات جنسياً: الأشخاص العابرون/ات الذين خضعوا و/أو يحتاجون للخضوع لإجراءات تعديل/تصحيح الجنس ليصبح منسجماً مع هويتهم/ن الجندرية.

- لاثنائيو/ات الجندر: الأشخاص الذين لا يشعرون بالإنتماء إلى أي من طرفي الثنائية الجندرية (ذكرـ أنثى).

- ثنائيو الجنس: الأشخاص الذين يولدون بخصائص جنسية بيولوجية (بما في ذلك الأعضاء التناسلية، والغدد التناسلية، والأنماط الكروموسومية) لا تتوافق مع التصورات الثنائية البيولوجية المعروفة لجسد الذكر أو الأنثى. وثنائية الجنس مصطلح شامل يستخدم لوصف طيف واسع من الإختلافات الجسدية. في بعض الحالات تكون سمات ثنائية الجنس واضحة عند الميلاد، وفي حالات أخرى لا تظهر إلا عند البلوغ. وبعض إختلافات ثنائية الجنس الكروموسومية قد لا تظهر بدنياً على الإطلاق.

ملاحظة: تتعلق ثنائية الجنس بخصائص جنسية بيولوجية، وهي مختلفة عن الميول الجنسية، أو الهوية الجنسانية. 

- ثنائيي الهوية الجنسية: الأشخاص الذين يمتلكون كلتا الهويتين الجندريتين (رجل – امرأة) في آن واحد.

- معدومي الهوية الجندرية: الشخص الذي لا يعرف عن نفسه على أنه يمتلك هوية جندرية يمكن تصنيفها على أنها رجل أو إمرأة، أو يعرف نفسه بأنه لا يمتلك هوية جندرية.

- مرني الهوية الجندرية: الأشخاص الذين تتبدل هويتهم الجندرية بين كلا النوعين، الرجل والمرأة.

- حري الهوية الجندرية: الأشخاص الذين لا تتمثل هويتهم/ن الجنسية في ثنائية النوعين. أو أنه شخص يجمع بين النوعين أو خارج نطاقهما، أو أنه يجمع بين كلا النوعين.

- محبي إرتداء ملابس الجندر الآخر: الأشخاص الذين يرتدون لأسباب عاطفية أو نفسية ملابس ترتبط عادة بالجندر الآخر. (لا زال هناك جدل حول محبي إرتداء ملابس الجندر الآخر، فبعض التعريفات تعتبرهم ضمن مجتمع العبور الجنسي، وبعض التعريفات لا تعتبرهم جزءاً منه).

إرتباك/إنزعاج الهوية الجندرية: هو الشعور بالإنزعاج أو الضيق الذي قد يحدث لدى الأشخاص الذين تختلف هويتهم/ن الجندرية عن جنسهم/ن المحدد وقت الولادة، أو عن السمات البدنية المرتبطة بالجنس الذي وُلِدوا به. هذا الإرتباك يسبب إختلالاً سريرياً جسيماً في إدراك الفرد، أو ضبط مشاعره، أو سلوكه، وعادةً ما يرتبط بالكرب أو بقصورٍ في مجالات مهمة من الأداء، وقد يقود إلى خطر إيذاء النفس. بالتالي تأتي ضرورة الإجراءات التعديلية/التصحيحية لجعل جسدهم/ن منسجماً مع الهوية الجندرية التي يشعرون بها.

ملاحظة: 1- كان إرتباك/إنزعاج الهوية الجندرية يعرف طبياً "بإضطراب الهوية الجندرية". تم تغيير المصطلح في عام 2013 في محاولة لتقليل الوصمة التي تحيط بالعبور الجنسي.

2- ليس كل العابرين/ات جنسياً لديهم/ن إرتباك الهوية الجندرية، لكن قد تؤثر هذه المشكلة على جزءٍ من العابرين/ات جنسياً به في مرحلةٍ ما من حياتهم. حيث يختلف إرتباك الهوية الجنسية عن مجرد إنعدام التناغم مع السلوكيات النمطية لجنس الشخص الذي ولد به، بأنه يشمل الرغبة الشديدة والملحة في الإنتماء لجنس آخر غير المولود به.

التصحيح/التعديل/التغيير الجنسي: هي الإجراءات الطبية والجراحية التي تهدف لتغيير المظهر الجسماني وخصائص الجنس البيولوجي الموجودة لتتفق وتنسجم مع النوع الإجتماعي للعابر/ة، وهي جزء أساسي من علاج  إرتباك الهوية الجندرية. وتستخدم إجراءات التصحيح/التعديل الجنسي كذلك لتحديد الجنس البيولوجي لثنائيي الجنس إن رغبوا في ذلك.

الهوية الجندرية (هوية النوع الإجتماعي) ليست ميولاً جنسية

يوجد خلط شائع بين الميول الجنسية والهوية الجندرية، فيعتقد الكثير من الناس أن الهوية الجندرية ترتبط بالميول، وأن الأشخاص العابرون/ات يعبرون لأسباب تتعلق بميولهم/ن الجنسية، وهذا خطأ. لأن الميول الجنسي للأفراد شئٌ ملازمٌ لوجودهم/ن بغض النظر عن توافقية جنسهم/ن البيولوجي بنوعهم/ن الإجتماعي. فالميل الجنسي هو أن ينجذب المرء جنسياً و/أو عاطفياً إلى أشخاص من نفس النوع الإجتماعي (مثلي/ة)، أو إلى النوع الإجتماعي الآخر (مغاير/ة)، أو ينجذب لكليهما معاً (ثنائي/ة الميول)، أو ينجذب للآخرين دون أي إعتبار لهويتهم/ن الجندرية أو جنسهم/ن البيولوجي (شامل الميول)، وفي حالات أخرى قد لا يشعر بأي إنجذاب جنسي تجاه أي شخص (لاجنسي). والهوية الجندرية هي المفهوم والإدراك الذاتي لمدى اتساق الشخص مع الأدوار الإجتماعية المتوقعة منه بناءً على جنسه البيولوجي أو عدم اتساقه. بمعنى أن الميول الجنسية هي شعور خارجي يتعلق بإنجذاب الشخص للآخرين وبعلاقته بهم/ن، أما الهوية الجندرية هي شعور داخلي خاص بالشخص تجاه إدراكه لذاته.

الخلفية التاريخية والتطور المجتمعي لمفاهيم العبور الجنسي

التنوع الجنساني والجنسي في المجتمعات موجود منذ قِدم التاريخ وقدم الحضارات الإنسانية، فنجد التمثيل للميل والعبور الجنسيين موجودٌ في الحضارات الفرعونية القديمة، والحضارة اليونانية، والحضارات الأفريقية، والحضارات الآشورية، وفي الصين القديمة، وشبه القارة الهندية وغيرها. وكان هناك تواجدٌ لهذا التنوع حتى في ظل الحضارة الإسلامية. حيثُ عاش في عهد النبي محمد العديد من العابرين/ات جنسياً والذين كانوا يطلقون عليهم لفظ (مخنثين). أغفلت كتب التاريخ والسيَّر الكثير من تفاصيل حياتهم وتاريخهم رغم أنهم كانوا من الصحابة. فمثلاً هناك (هِيت)، الذي ذكره الإمام الحافظ العسقلاني في كتابه (الإصابة في معرفة الصحابة). عاش (هيت) في حياة محمد وكان يدخل على زوجاته في خلوتهن، بينما مُنِع وحُرِم ذلك على الرجال من غير محارمهن. كان هذا التنوع حاضراً حتى في العصور الإسلامية التي تلت وفاة النبي (الخلافة العباسية والأموية). والأدب العربي في تلك الفترات يزخرُ بالقصص عن العابرين/ات.

إعتماد المجتمعات على التصنيف القائم على ثنائية الجنس البيولوجي ساهم في صناعة وترسيخ ثنائية النوع الإجتماعي (الجندر)، مما نتج عنه وجود سلم إمتيازات إجتماعية، جعلت الأشخاص الذين لا ينسجمون تحت مفاهيمها يُعامَلون معاملةً أدنى وأقل من الأشخاص المنسجمين. وفي تاريخنا الحديث تصاحِب تلك الثنائية الجندرية تمسكٌ قويٌ بمركزية الرجل وهيمنته في جميع أصعِدة الحياة، وذلك أدى إلى إقصاء جميع الفئات الجندرية الأخرى، سواء المنسجمة مع النوع الإجتماعي (النساء)، أو الغير منسجمة (العابرين/ات جنسياً) في تلك المجتمعات الذكورية والتي لعب الدين دوراً مفصلياً في تشكيل وترسيخ دعائم الفصل النوعي فيها.

من هنا بدأت أزمة العابرين/ات جنسياً تخرج للسطح. فبعد أن كان العبور جزءاً من التنوع الإجتماعي والبيولوجي في الجنس البشري، صار يُنظر له كأسلوب حياةٍ منحرف غير مقبول ومجرَم بالقوانين. فمثلاً لم يَتبع السكان الأصليون في أمريكا الشمالية نمطاً معيناً لدور الذكور والإناث على حدًى، ولم تكن هناك أي قوانين تحدد أدوار الفرد بناءً على جنسه ليكون "طبيعياً" في مجتمعه وبين قبيلته، بل يتم تقدير الأفراد الذين كانوا يتحلون بصفات ذكورية وأنثوية. كان ذلك قبل إجتياح الأروبيون للقارة الأمريكية، بعد الغزو زُرِعت الأدوار المجتمعية النمطية المستمدة من طبيعة المجتمع الذكوري الذي قدِموا منه وفرضوها على السكان. وفي السودان كانت قبائل النوبة التي تقطن مناطق جبال النوبة حالياً في ولاية جنوب كردفان (شعب أوتورو مثلاً) تتقبل ذلك التنوع، وبعض الرجال كانوا يرتدون أزياءُ النساء ويعيشون حياتهم بالنمط الإجتماعي النسائي. وأيضاً لعبت الأنظمة الإستعمارية في السودان دوراً أساسياً في غرس بذور رفض أي شكل من أشكال التنوع الإجتماعي، يتجلى ذلك بوضوح في القوانين التي تجرم التنوع الجنساني والمعمول بها حتى الآن في السودان.


تحولت الأفكار الذكورية التي جاء بها المستعمِر لقوانين ولوائح تجرم السلوكيات الجنسية، والأنماط المجتمعية التي لا تخضع للثنائية الذكورية. فقابلت تلك المجتمعات العابرين/ات جنسياً بالتمييز والإقصاء المجتمعي والقانوني، والعنف الجنسي والجسدي، ومارست ضدهم/ن الممارسات التحويلية التي كان الهدف منها تنميطهم/ن جندرياً. وكلما زادت أسباب التمييز والإقصاء المجتمعية الأخرى كالعرق والطبقة الإجتماعية زاد كرب العابرين/ات في مجتمعاتهم/ن. فعانى العابرون/ات من العرقيات والإثنيات "المضطهدة أصلاً" أكثر من العابرين/ات من ذوي البشرة البيضاء، وعانت العابرات جنسياً بشدة وواجهن عنفاً أقسى نتيجة الفكر الذكوري الذي يعتبِر عبور الرجل إلى أنثى تدنيساً وتحقيراً لمفاهيم الرجولة والذكورة. لذلك من اللازم والمنصِف اصطحاب تقاطعية أسباب الظلم والإضطهاد عند الحديث أو الدفاع عن قضايا الأقليات الجنسية.

في النصف الثاني من القرن الماضي بدأ حراك الأقليات الجنسية يصعد في الغرب، بالتحديد في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان على رأسه العابرون/ات جنسياً من السود والأعراق الأخرى غير البيضاء. كانت نقطة التحول في الحراك هي أعمال شغب ستوونول عام 1969 في مدينة مانهاتن بنيويورك، التي قادت مجتمع الميم.عين في المدينة للتظاهر والإحتجاج ضد التعامل العنيف للشرطة في مواجهة أفراد الأقليات الجنسية بسبب القوانين التي كانت تضطهدهم/ن وتقصيهم/ن وتقنن حبسهم/ن. حيث كانت تستهدف الشرطة الأشخاص الذين يرتدون ملابساً لا تتطابق مع نوعهم الإجتماعي المُفترض والمُتوَقع، لأن ذلك لم يكن قانونياً حينها.

مارشا بي. جونسون في تظاهرات ستونوول.

ساهمت أحداث ستونوول في دعم النشطاء والناشطات المهتمين/ات بحقوق الأقليات الجنسية سياسياً، لتنشأ بعدها عدة منظمات معنية بالقضية مثل (جبهة تحرير المثليين) ، وأهم ناشِطاتها؛ مارشا بي جونسون، وسيلفيا ريفيرا (عابرتان جنسيتان)، اللتان شاركتا في التظاهرات التي تلت أحداث ستوونول، وأسستا العديد من المبادرات التي اهتمت بالسجناء من مجتمع الميم.عين وتوفير المساكن للمشردين/ات من المجتمع.

الأوضاع السيئة للأقليات الجنسية وقتها في مدينة نيويورك التي أشعلت شرارة ثورة ستوونول لم تكن تتعلق فقط بالنواحي السياسية والإجتماعية والقانونية، لكن أيضاً عانت الأقليات الجنسية صحياً بالوصم و/أو بالتجاهل. فمثلاً اعتُبِرت المثلية الجنسية مرضاً في المرجع الأساسي للطب النفسي في الولايات المتحدة، في نسختيه الأولى والثانية، وبناءً على ذلك تعرض الكثير من أفراد الأقليات الجنسية لتجارب غير إنسانية لتبديل ميولهم/ن إلى الغيرية (الإنجذاب إلى الجنس الآخر). بينما لم يتضمن المرجع ارتباك الهوية الجندرية في نسختيه الأولى والثانية أصلاً. وتعرض العابرون/ات إلى نفس التجارب النفسية السيئة، والتشخيص الخاطئ بأمراض عقلية مثل الإنفصام والذهان، الذي كان يؤدي للعلاج بالإشعاع أو الكهرباء وغيرها من الممارسات الطبية الخاطئة.

من المهم ذكر أنه وقبل الحراك الإجتماعي/السياسي الذي لعب فيه العابرون/ات دوراً أساسياً والذي ساهم في تطوير العلوم والأبحاث المتعلقة بالعبور الجنسي، كانت هناك العديد من التدخلات الجراحية التي هدفت للتصحيح/التعديل الجنسي للأشخاص الذين عانوا من عدم إنسجام جنسهم/ن البيولوجي مع نوعهم/ن الإجتماعي. أبرز الأشخاص الذين خضعوا لتلك العمليات الجراحية كانوا؛ الطبيب الأمريكي ألن هارت (رجل عابر)، خضع لأول عملية تصحيح جنسي عام 1917م. والرسامة الدنماركية ليلي ألب (عابرة)، كذلك خضعت للعديد من العمليات الجراحية في سبيل العبور الجنسي، والتي أدت في النهاية إلى وفاتها بعد معاناتها مع مضاعفات الجراحة الأخيرة، ذلك بسبب أن العملية كانت لا تزال تجريبية، ولا وجود لمرجعية علمية صلبة يستند عليها الجراحين الذين يجرونها.

آلن هارت - رجل عابر

بعد تضمين مشكلة إرتباك الهوية الجنسية (كانت تسمى سابقاً بالإضطراب) في الكتب والمراجع العلمية، صار من السهل تشخيص الفئات المتأثرة بهذه الحالة من مجتمع العابرين/ات جنسياً، وتم وضع منهجية علمية للوصول للتشخيص، ومن ثم إخضاع من يعانون من هذه المشكلة للعلاج المناسب الذي يتضمن الإجراءات الطبية التي تشمل مانعات البلوغ، والعلاج الهرموني، بالإضافة إلى الإجراءات الجراحية التي تتضمن استئصال و/أو ترميم الأعضاء التناسلية والأعضاء الجنسية الثانوية. وبالتأكيد العلاج النفسي المناسب للأزمات النفسية التي يتعرض لها العابرون/ات جنسياً أثناء فترة عبورهم/ن بسبب الضغوطات المجتمعية والرفض.

حالة الإنفتاح تلك تجاه السماح بتجربة تلك التدخلات الطبية لم تكن دوماً إيجابية، نظراً لأن العديد من العابرين/ات تم اخضاعهم/ن قسرياً لتلك الإجراءات، سواء عن طريق الهرمونات أو التدخل الجراحي. تلك الإجراءات القسرية يمكن أن تُصَنف في بند الإجراءات التحويلية التي كانت ولا زالت تعاني منها الأقليات الجنسية في أماكن متفرقة من العالم. فمثلاً في إيران، أجاز المرشد الأعلى في "روح الله الخميني" عام 1983 عمليات "التحول الجنسي"، لكن تلك العمليات أخذت منحًى آخر بعد أن صارت الدولة تمارس ضغوطاً شديدة على بقية مجتمع العابرين/ات الذين لا يرغبون في الخضوع للعملية، بل صارت الحكومة الإيرانية تمارس ضغوطاً حتى على الرجال المثليين للخضوع لها، عِوضاً عن العقوبة الشديدة التي سيتعرضون لها في حالة محاكمتهم بالمثلية الجنسية. فالدولة الإيرانية لديها تناقضٌ في قوانينها، فهي تبدو منفتحة للوهلة الأولى عندما ترى فتوى الخميني التي تسمح بإجراءات العبور الجنسي الدوائية والجراحية، لكن ترفض المثلية وتجرمها وترفض تنوع الهويات الجندرية خارج نطاق الثنائية الجندرية في المجتمع.

على صعيدٍ آخر، ساهمت النظريات الإجتماعية المتعلقة بالجنس والجنسانية المستقلة عن السلطة الذكورية القائمة على الثنائية في إزاحة الغطاء عن الكثير من مفاهيم النوع الإجتماعي في المجتمعات الإنسانية. وكونت مفاهيماً جديدة تدعم التنوع الإجتماعي بعيداً عن نمطية الثنائية الجندرية/الجنسية، مما ساعد في التقليل من الوصمة الإجتماعية المرتبطة بالعبور الجنسي، وجعل عدداً من الدول تُلغي قوانينها التي تجرم العابرين/ات جنسياً. وفَتح العديد من آفاق الحُرية أمام الأشخاص الذين يُعرّفون أنفسهم/ن خارج الثنائية الجندرية والذين لا يمرون بحالة الإرتباك في الهوية الجندرية.

لكن مازالت الوصمة الإجتماعية راسخةً في الكثير مجتمعات العالم، حتى في تلك المجتمعات التي لم تعد قوانينها تجرم العبور الجنسي. وذلك –كما أسلفت- بسبب الطبيعة الذكورية لتلك المجتمعات، بالإضافة إلى الخلط الكبير بين العديد من المفاهيم المتعلقة بالجنس والجنسانية فتتعامل مع الميل الجنسي والعبور الجنسي كمفهوم واحد، ولا يوجد لديها تعريفات واضحة عن العبور الجنسي وتصنيفاته والمشكلات النفسية التي تصاحب بعضاً من أفراده. فمثلاً في شبه القارة الهندية (الهند – باكستان - بنقلاديش) يتقبل المجتمع العابرون/ات جنسياً بمختلف تصنيفاتهم تحت مجموعة تعرف بـ (هِجرا)، ويطلق عليهم/ن مصطلح (جنس ثالث)، تشمل تلك المجموعات بصورة أساسية العابرات جنسياً، وثنائيي الجندر، ورغم أن تاريخ تواجدها في تلك الدول قديم بقدم السلطنة الهندوستانية إلا أن أفرادها يعيشون على هامش المجتمع في ظروف إجتماعية وإقتصادية قاسيتان جداً. حيث تلفظ الأُسر المحافظة في تلك الدول بناتها العابرات، ليجدن أنفسهن بلا مأوى ولا مصدر دخل سوى الإنضمام لتلك المجموعات للحماية، والعمل في التجارة الجنسية.

لماذا من المهم الحديث عن العبور الجنسي في السودان؟

في السودان لا يوجد إعتراف بالعبور الجنسي، ويتم التعامل مع العابرين/ات جنسياً بالتجريم الموجود في القانون الجنائي للعام 1991 للمثلية الجنسية (المادة 148 والمادة 151). فحالة الإلتباس بين الميول الجنسية وهويات النوع الإجتماعي لا تزال تسيطر على المجتمعات في السودان. كما يتم تجريم العبور الجنسي كذلك تحت المادة 152، التي تعتبر عدم توافق التعبير المظهري بالنوع الإجتماعي المفترض (تشبهاً بالنوع الآخر).

التجريم القانوني يقابله وصم مجتمعي كبير جداً تجاه قضية الأقليات الجنسية بصورة عامة، والعابرين/ات جنسياً بصورة خاصة. لذا تظل مجتمعات العابرين/ات تعيش داخل السودان تحت تعتيم وإضطهاد متواصلين، يضطر أفرادها أن يتعايشوا/ن مع الكثير من الأزمات النفسية بسبب العوائق والمشكلات المجتمعية التي تظل تلاحقهم/ن، ولعل أبرز ما يتعرض له العابرون في السودان يتمثل في؛

1- الإجبار على النمطية الثنائية التي يفرضها عليهم/ن المجتمع.

2- النبذ والرفض الأسري والمجتمعي.

3- التزويج القسري.

4- التمييز الإجتماعي – السياسي – الإقتصادي – الصحي.

5- الملاحقة القانونية.

6- العنف الموجه للعابرين/ات بجميع أنواعه؛ (اللفظي – الجسدي – الجنسي). وصلت حالات العنف تجاه العابرين/ات للقتل.

7- عدم وجود قوانين موجهة لحماية الأقليات الجنسية والجندرية.

8- عدم الإعتراف القانوني بهوياتهم/ن.

9- الإجراءات التحويلية (عرضهم/ن على شيوخ، رجال دين بغرض علاجهم/ن، أو حتى أطباء يرفضون تبني البروتوكولات الطبية الحديثة).

من المهم الإشارة إلى أن القانون السوداني يعترف بوجود ثنائيي الجنس فقط ويطلق عليهم مصطلح (خنثى) وهو المصطلح الإسلامي الذي يعتمد عليه القانون. هذا الإعتراف بالطبع ضمني فلا توجد مواد تتحدث بصراحة عن وجودهم/ن داخل المجتمع، أو تحث على حمايتهم/ن. المادة التي تذكر وجودهم/ن تتعلق بالميراث، فنجد ذلك في المادة 407 من قانون الأحوال الشخصية السوداني المستمد من الشريعة الإسلامية. والذي ينص على: (يكون للخنثى المشكل أقل النصيبين على تقدير ذكورته وأنوثته). أي أن الشخص ثنائي الجنس يرث لكن نصيباً أقل بعد تقديره ذكراً أو أنثى (كتر خيرهم). كما لا ترفض الدولة خضوعهم/ن لعمليات التصحيح الجنسي. وهذا ما تقوم به جمعية التنميط النوعي، وهي جمعية سودانية أنشأتها مجموعة من الأطباء السودانيين تهتم بعمل الإجراءات التصحيحية الجراحية لثنائيي الجنس الذين يرغبون بذلك وتساعدهم بواسطة القانونيين المتطوعين لتغيير أوراقهم/ن الثبوتية بعد إجراء العملية ونجاحها. وحسب لقاء صحفي قديم ذكر رئيس الجمعية البروفيسور عماد فضل المولى أن هناك المئات من حالات ثنائية الجنس الموثقة في سجلات الجمعية، بعضهم خضع للجراحة، والبعض الآخر لم يقدم عليها بسبب الخوف من سياط المجتمع. 

رغم أهمية الجمعية وجهودها التي تقوم بها لشريحة من مجتمع العابرين/ات لكن تظل التحيزات المجتمعية والدينية تُقصي الآخرين من ذات المجتمع والذين يرغبون بالخضوع لهذه الإجراءات التصحيحية. تبادلتُ الحديث مع إحدى العابرات السودانيات حول الجمعية وتاريخها، فذكرت لي أن الجمعية أحياناً كانت تُجري عمليات التصحيح للعابرين (الذين ولدوا كأنثى)، لكن ترفض تماماً إجراء العمليات للعابرات، وذلك بسبب النظرة المجتمعية القاسية تجاههن، "أن تصبح الفتاة رجلاً، هو فخر. لكن ما ممكن الراجل يبقى مرة. كنت شايفة ناس الجمعية منافقين، لكن في النهاية دة المجتمع كدة ودي حربنا اللازم نحاربها ما حننتظر زول من برة يخوضها لينا". الشئ الذي يدل بوضوح على أن مسألة الخضوع لتلك العمليات محكومٌ عليها بقبضة المجتمع، فلطالما لا يوجد سبب طبي مباشر وصريح يستدعي ذلك الإجراء فلن يجرِه الأطباء، وغالباً ذلك السبب في السياق السوداني هو (الثنائية الجنسية). أما السياقات النفسية التي تشمل حالة عدم الإنسجام الجندري فهي خارج المعادلة تماماً، بالأخص المتعلقة بالعابرات جنسياً.

نتيجةً لذلك يتجه العابرون/ات السودانيون/ات الراغبون/ات في إجراء التصحيح/التعديل الجنسي إلى جمهورية مصر، رغم أن السلطات في مصر تسمح بالعملية لطالما كانت في الإطار الطبي الضروري فقط. عليه يخضع الأشخاص الذين يرغبون بهذه العملية إلى عدة فحوصات وإختبارات تتطلب وقتاً وجهداً وتكلفةً ماديةً باهظة. وفقط في حالة استيفاء المعايير الموضوعة من قبل وزارة الصحة المصرية يتم منح الفرد الذي يرغب في هذه العملية تصريحاً مكتوباً ليتمكن بعدها من الخضوع للعملية. هذه الإجراءات التي تستغرق الكثير من الوقت والإجراءات المعقدة الغير مضمونة تدفع الكثيرين/ات لللجوء إلى أطباء غير محترفين يُجرون العملية داخل عياداتٍ خاصة وبالخفاء، الشئ الذي يزيد من إحتمالية إصابتهم/ن بمضاعفات أثناء وبعد العملية، والتشوه المحتمل نتيجة التدخل الجراحي.

أين نحن من حقوق العابرين/ات؟

لا يزال الطريق طويلاً أمام قضية العبور الجنسي في السودان. تحُفُ هذا الطريق العديد من العقبات والعراقيل التي تجعل السير في الرحلة شاقٌ ومرهق. وصولنا لقوانينٍ سودانيةٍ لا تُجرِم وتحمي التنوع الجندري في المجتمع السوداني بالتأكيد أمرٌ صعب لكنه غير مستحيل، فكثرة الطرق على الحديد تجعله يلين، وقطراتُ الماء تشق الصخر في النهاية. أولى الخطوات في هذه الرحلة الشاقة هو خلق مساحات مناسبة للحديث والنقاش حول الجنس والجنسانية ومفاهيمهما، بعيداً عن التأثير المجتمعي، والإنحيازات الشخصية، والتمسك بالعلمية والمنطقية التي تقوم على مبادئ المساواة الإنسانية والمواطنة العادلة. والمناصرة الفاعلة من أجل إلغاء كل القوانين التي تجرم التنوع الجندري في المجتمعات وتنتهك الحريات الشخصية لأفرادها.

من المهم أيضاً لطارق الحديد أن يعرف من كان يطرق من قبله، فالتوثيق لتجارب العابرين/ات يشكل إلهاماً ساطعاً لكل أفراد المجتمع. فالحراكات المجتمعية لا تصل لمبتغاها بين ليلةٍ وضحاها، لأنها عملية تراكمية طويلة تتطلب مساهمة أفراد ذلك الحراك من مختلف الأجيال. فمن المهم أن يعرف ويفهم الناشطون في قضايا العبور التاريخ ليستلهموا من إيجابياته، ويتعلموا من سلبياته ليتفادوا الوقوع فيها مستقبلاً.

إنطلاقاً من هذا المبدأ سنقوم في المدونة القادمة بنشر لقاءٍ قصير مع أول عابرة جنسياً في السودان استطاعت أن تغير أوراقها بصورة رسمية، بعد أن خاضت حرباً طويلة ضد المجتمع وضد القانون.

سمسم
X: @Lsdgirl1

Comments

Popular posts from this blog

مازن قوازية

إيمي عبدو؛ رحلة الماضي التي غيرت الحاضر والمستقبل